من سئل فأفتى فلا حرج عليه أن يقول لا أدري؛ وهذا لا ينقص من قدره شيئاً؛ ولتكن خشيته لله أعظم من خشيته الناس؛ وقد فعلها الأكابر؛ فالملائكة: "قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ" ومع ذلك هم كرام على الله عزوجل.
- اليهود سألوا النبي ﷺ عَنْ الرُّوحِ؛ فَسَكَتَ حتى أنزل الله:" وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي"
ولما سأله جبريل عليه السلام عن الساعة قَالَ: "مَا الْمَسْؤولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ…"
سأل رجل رسول الله ﷺ أي البقاع شر ؟ قال: لا أدري حتى أسأل جبريل، فسأل جبريل فقال: لا أدري حتى أسأل ميكائيل، فجاء فقال:خير البقاع المساجد، وشرها الأسواق.
أبو بكر جاءته جدة تسأل عما لا يعلم؛ قال: ارجعي حتى أسأل الناس.. فَسَأَلَ النَّاسَ فَشَهِدَ لها بعض الصحابة فأعطاها حقها.
عمر بن الخطاب كانت تشق عليه المسألة فيجمع لها أهل بدر ليستشيرهم ويسألهم، فما يزيده ذلك إلا مهابة وإجلالاً في قلوبهم.
وكان علي رضي الله عنه يقول: واأبردها على الكبد )ثلاث مرات(. قالوا: وما ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: أن يُسئل الرجل عما لا يعلم، فيقول: الله أعلم.
سأل ابنَ عمر رجل عن مسألة، فقال: لا علم لي بها، فلما أدبر الرجل قال ابن عمر: نِعم ما قال ابن عمر (يمدح نفسه) سئل عما لا يعلم فقال لا علم لي به…
بل كانوا يتدافعون الفتيا وكل واحد يتمنى أن أخاه يكفيه الفتيا، ونحن نجلس في بعض المجالس فتطرح موضوعات في الطب فلا تجد إلا الأطباء يتكلمون؛ وإذا تحدثوا في الأدب فلا تجد إلا الأدباء وأهل اللغة يتحدثون، وأما إذا طرحت مسألة دينية يخيل إليك أنك تجلس بين كبار العلماء والأئمة؛ كل منهم يدلي بدلوه ويفتي.
سئل القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن شيء، فقال القاسم: لا أحسنه، فجعل الرجل يقول: إني دُفِعت إليك، لا أعرف غيرك؛ فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي، وكثرة الناس حولي، والله لا أحسنه؛ والله لأن يُقطع لساني أحبُّ إليَّ من أن أتكلم بما لا أعلم.
وكان يقول: لأن يعيش الرجل جاهلاً بعد أن يعرف حق الله عليه خير له من أن يقول مالا يعلم…
- كان في الجاهلية رجل من الحكماء يقضي بين الناس إذا اختلفوا يقال له: عامر بن الظرب العَدْوانِيّ، جاءه وفد من إحدى القبائل، قالوا: يا عامر! وجد بيننا شخص له آلتان؛ يقصدون أنه خنثى؛ ونريد أن نورثه، فهل نحكم له على أنه أنثى أو نحكم على أنه ذكر؟ فأقاموا عنده أربعين يوماً لا يدري ما يصنع بهم؛ وهو يذبح لهم كل يوم، وكانت له جاريه ترعى له الغنم يقال لها: سُخَيْلة، قالت: يا عامر! قد أكل الضيوف غنمك ولم يبقَ لك إلا اليسير، أخبرني، فأخبرها وقال: ما نزل بي مثلها نازلة، فقالت الجارية: يا عامر! أين أنت؟ أتبع الحكم المبال.
أي: إن كان يبول من آلة الذكر فاحكم عليه بأنه ذكر، وإن كان يبول من آلة الأنثى فاحكم عليه بأنه أنثى؛ فقال: فرجتها عني يا سخيلة؛ وأخبر الناس.
فهذا رجل مشرك كما قال الإمام الأوزاعي لا يرجو جنة ولا يخاف من نار ولا يعبد الله، ويتوقف في مسألة أربعين يوماً حتى يفتي فيها، فكيف بمن يرجو الجنة ويخاف النار؟! كيف يتجرأ على الفتيا من دون علم؟!
هذه القصة موعظة لكل من صدّره الله، فلا حرج عليك أن تقول لا أعلم إن كنت لا تعلم.
كان بعض مشايخنا يحذر من الفتوى بغير علم؛ يقول: احذر أن ينعم الناس بفتواك وتدخل أنت بها النار.
جاء رجل إلى سُحنون ( من فقهاء المالكية ) يتردد عليه ثلاثة أيام يسأله عن مسألة، ثم قال: مسألتي أصلحك الله، اليوم ثلاثة أيام؛ فقال له: وما أصنع بمسألتك؟ مسألتك معضلة، وفيها أقاويل، وأنا متحير في ذلك؛ فقال: وأنت أصلحك الله لكل معضلة؛ فقال سُحنون: هيهات يا ابن أخي، ليس بقولك هذا أبذل لحمي ودمي للنار، وما أكثر ما لا أعرف. وقال سُحنون: "أشقى الناس من باع آخرته بدنياه، وأشقى منه من باع آخرته بدنيا غيره، فقال: تفكرت فيه وجدته المفتي يأتيه الرجل قد حنث في امرأته ورقيقته فيقول له: لا شيء عليك، فيذهب الرجل فيستمتع بامرأته ورقيقته وقد باع المفتي دينه بدنيا هذا".
نعم ما أكثر أولئك الذين يتكلمون باسم الدين؛ وهم من أقزام القوم؛ ومن نكرات المجتمع مستندين في ذلك إلى عقولهم السطحية؛ غير مبالين بتعطيل أو معارضة بعض نصوص الوحي؛ فضلاً عن رد أقوال كبار العلماء، بحجة أنهم لم يفهموا مراد النبي ﷺ ومقاصد الشريعة كما فهمه هو.